الاثنين، 2 يناير 2023

الباشا

ارتديت ملابسي على عجل، وودعت أمي بقبلة على جبهتها قبل أن أغادر المنزل، شايعتني بدعواتها لي بالتوفيق والعودة سالمًا، طيلة الطريق كنت أفكر في الأسئلة المحتملة من المحامي، والذي أرسلني صديقي إليه كي أتدرب في مكتبه.

تذكرت كل ما قاله لي صديقي عن المحامي، هيئته، شخصيته، وقوة حجته أثناء المرافعة، حتى تمنيت أن أصبح مثله يومًا ما، فالمحاماة تمثل لي حلمًا كبيرًا، جاهدتُ من أجله طيلة أربع سنوات، قضيتها بين أروقة الجامعة ومكتباتها حتى نلت الشهادة، وان واتتني الفرصة لأحقق هذا الحلم، فهل سأصبح محامٍ شهير مثله؟

 كانت البناية الكائن بها المكتب ذات طرازٍ قديم، لها مدخل كبير يزدان برسومات من العهد الملكي، لم يكن هناك أسانسير فصعدت السلم، وحين وصلت للدور الثالث حيث المكتب وجدت العرق يتفصد من جبهتي، مسحته بمنديل ورقي ودخلت.

لم أجد أحدًا فأدرت نظري في المكان، وقبل أن أكتشفه بالكامل، خرج أمامي الساعي فارتبكت، أخبرته أني جئت من أجل التدريب، ولي الشرف أن أتدرب مع الأستاذ، رمقني بنظرة تعجب، وأشار لأحد الكراسي وانصرف، وقبل أن أجلس عاد وأشار لي أن أتبعه، فتح الباب وانصرف.

 كان استاذ يجلس إلى مكتبه الضخم، وقد انهمك في القراءة، وثمة ملفات عن يمينه وضعت بنظام دقيق، وعن شماله مجسمات صغيرة لرجال ونساء بملابس السهرة، كانت الإضاءة خافتة ورائحة نفاذة لا أدري كنهتها تملأ المكان.

كانت هيئته وامتداد شاربه يشعراني بالهيبة والوقار، ولا ينقصه سوى طربوش على رأسه، حتى يصير وكما وصفه صديقي أنه (باشا).

 أشار لي بالجلوس، وسألني عدة أسئلة، أجبت عليها كما لقنني صديقي، ابتسم ورحب بي كمتدرب في مكتبه، فغمرتني مشاعر الفرح والرضا، وإحساسٌ بقرب تحقق حلمي.

أقبل الساعي وأخبره بوصول أحد الموكلين، فنظر إليّ قائلاً: "حظك بمب، هتشوف طريقتي في معاملة الزباين، وازاي باقنعهم بأي حاجة".

 بالرغم من قلقي من هذا الأسلوب في الحديث، إلا أنني رأيتها فرصة كبيرة، فهل كانت كذلك؟

 كان في الخمسين من عمره، يرتدي جلبابًا أبيضًا وعباءةً سوداء، القى السلام على استاذ قائلًا: "سلامو عليكو يا حج".

رد عليه الأستاذ: "أهلًا أهلًا يا مراحب، أزيك يا معلم".

 جلس الموكل، وقبل أن يتكلم دخل الساعي يحمل بين يديه "شيشة"، فتعجبت من سرعته في احضارها للموكل، وازداد تعجبي حينما وضعها أمام الأستاذ، والذي بادره قائلًا: "فين شيشة المعلم يابني".

 خرج الساعي، فخرج معه الرضا الذي كان يملأ قلبي، وتبدد السرور حينما استمعت لفاصلًا من الحديث الذي دار بين الاستاذ والموكل، والذي كان بلغة سوقية أترفع عن التحدث بها.

 جلستُ بينهما كالحاضر الغائب، فقدت الإحساس بالزمان والمكان، فلا أدري كم مضى من الوقت، ولا متى جاء الساعي بالشيشة اخرى، ولا في أي الأمور تحدثا.

سرحتُ في حلمي الذي رأيته يتحطم أمامي في أول يوم لي في المحاماة، فهل هذا هو الشخص الذي تمنيت منذ قليل أن أصبح مثله، يا لخيبة أملي، ويا لتعاستي، هل أستمر في هذه المهزلة وأتقبل التدريب لديه؟  هل أغض الطرف عن أسلوبه في المعاملة، وطريقته في الكلام؟

 أعلم أن أمي تنتظرني لتفرح بي، فهي تحلم مثلي أن أصبح محام كبير، ولكن لن أستطيع أن أحقق حلمي وحلمك يا أمي، لن أتخلى عن مبادئي، فليست هذه هي المحاماة التي حلمت بها.  

 توقفت اسئلة برأسي حينما قام الموكل، انصرف بعد أن طمأنه استاذ مع وعد بكسب القضية، استأذنت استاذ بالانصراف، فقال لي: هستناك بكرة، عشان أوريك اللي مشفتهوش في حياتك"، فقلت له :" إن شاء الله"، ولسان حالي يقول : "في المشمش يا باشا".

( تمت ) 


0 التعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة